الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج الترمذي وأبو داود عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تبارك وتعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشفقت لها اسما من اسمي يريد جل جلاله الرّحمن الرّحيم فمن وصلك وصلته ومن قطعك قطعته أو قال بتّته البتّ أقصى غاية القطع والقطع الذي لا وصل بعده وروى البخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من سره أن بسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه.ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يدخل الجنّة قاطع رحم.ورويا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ليس الواصل بالمكافئ أي المقابل يعني إذا زاره رحمه كافأه بزيارته ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم: «الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» يريد عليه الصّلاة والسّلام أنه يزور رحمه وإن لم يزره هو لأن المقابلة بالزيارة مكافأة، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ» أي لا يبعد هذا صلة كاملة وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرّحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأجل.وروى البغوي بسنده عن عاقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن مثل الذي يعمل السّيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل اخرى حتى خرج إلى الأرض».وفي هذا الباب أحاديث كثيرة بضيق النّطاق عن ذكرها هنا، ويكفي أن اللّه تعالى يظن واصل رحمه بظله المبين فيما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إن في الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلها مئة عام لا يقطعها».ومثله عن أبي سعيد الخدري بزيادة: «الجواد المضمر السّريع».ومثله عن أبي هريرة وذكر فيه «سنة» بدل «عام» واقرءوا إن شئتم: {وظل ممدود} الآية 31 في سورة الواقعة راجع هذه الآية في معناه وأما ما يتعلق بنقض العهد وإبرامه، فراجع فيه الآية 34 من سورة الإسراء والآية 42 من سورة النّحل قال تعالى: {كَذلِكَ} مثل ما أرسلنا قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم الماضية لأجل إرشادهم وتعليمهم أوامرنا ونواهينا وتفهيمهم قدرتنا: {أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} كما تلت أولئك الرّسل الأقدمون على أقوامهم ما أوحيناه إليهم فيما لهم وعليهم: {وَهُمْ} والحال أنهم الكافرون المذكورون: {يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} الإله البالغ الرّحمة المنتهى الرّأفة الذي من رحمته ورأفته أرسلك إليهم.وضمير يكفرون يعود إلى القائلين: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} الآية 27 المارة وما قيل أن هذه الآية نزلت في أبي جهل إذ قال إن محمدا يدعو بالحجر إلهين اللّه والرّحمن المراد بالحجر هنا حجر إسماعيل عليه السّلام المقابل للبيت من جهة الميزاب أو أنها نزلت في سهيل بن عمرو حين كتابة معاهدة الحديبية.حينما قال له حضرة الرّسول اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال سهيل لا نعرف الرّحمن الرّحيم، لا نعرف إلّا رحمن اليمامة، فهما قيلان لا مستند لهما لأن أبا جهل قتل في حادثة بدر قبل نزول هذه الآية بخمس سنين، وهذه السّورة كلها مدنية، ولم يستثن منها أحد هذه الآية ولا غيرها على القول الصّحيح، ولأن سهيل بن عمرو لم يأت المدينة ولم يقل أحد بأن هذه الآية نزلت عند حادثة الحديبية التي وقعت قبل نزولها بأكثر من سنة: {قُلْ} يا سيد الرّسل أن الرّحمن: {هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ} [30] أصلها متابي حذف الياء منها للتخفيف أي مرجعي إليه، لأن تاب بمعنى رجع قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ} فصارت تمرّ مرّ السّحاب: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} فتفجرت عيونا منهمرة بالماء: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} فأحياهم ونطقوا بما رأوا، كما رفع الطّور لموسى، ومثل ضربه الحجر فتفجر بالماء، وما وقع لعيسى من احياء الموتى وكلامهم، لكان هذا القرآن جديرا بذلك وقمينا به، لأنه على جانب كبير من الإعجاز، وغاية بالغة من التذكير، ونهاية عالية بالتخويف.وليعلم أن ليس لهؤلاء الخوض بالاقتراح: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} إن شاء أظهر على يد رسوله ما اقترحوه، وإن شاء لم يظهر بحسب ما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وهذه الآية الباهرة متعلقة بقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} المارة.وما قيل أنها نزلت في كفار مكة كأبي جهل وأضرابه حين قالوا لحضرة الرّسول إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال مكة إلخ لا يصح لما تقدم من التعليل، ولأن هذا مرّ القول فيه في الآية 93 من الإسراء والآية 7 من الفرقان فراجعه إن شئت.قال تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أفلم يعلم وعليه قوله:
أي ألم يعلموا وقول الآخر: أي ألم يعلم.{أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} ولكنهم علموا باعلام اللّه إياهم أنه لم يشأ لذلك فهم آيسون من هداية كلّ النّاس ومقطوع أملهم من ذلك: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ} هذه الدّاهية: {قَرِيبًا مِنْ دارِهِمْ} فتقرع قلوبهم وتفطرها ولا يزالون فزعين من تأثيرها: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} بنصرك عليهم أو إهلاكهم أو ايمانهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} [31] الذي وعدك به يا سيد الرّسل من ظفرك بهم فلا يهولنّك تكذيبهم لك وسخريتهم بك: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} من قبل قومهم كما استهزأ بك قومك الكفرة: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بإطالة المدة وزيادة النعم حتى ظنوا أنهم على خير: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} على غرة وغفلة بعذاب عظيم إذ لم ينتفعوا بالإمهال وعاقبتهم: {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 32} لو رأيته أيها الإنسان لهالك أمره وأهابت بك فظاعته.واعلم أن المراد بالّذين آمنوا الواردة في منتصف الآية 31 السّالفة الرّسل وأتباعهم الّذين يحرصون على إيمان النّاس ويريدون أن يكونوا كلهم مؤمنين، وعلى هذا يجوز أن يكون فعل ييأس على ظاهره دون حاجة لتأويله بيعلم، وعلى هذا يكون المعنى ألم ييأسوا من هداية كل النّاس وقد قدمنا لهم عدم إمكانه وفقا لما هو ثابت في علمنا ومقدر بأزلنا راجع الآية 120 من سورة هود.فيا سيد الرّسل قل لهم على طريق الاستفهام: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} مثل هذا الإله العظيم كمن هو عاجز عن حفظ نفسه مثل الأوثان؟ كلا، ليسوا سواء، ولكن هؤلاء الكفرة سوّوا بينهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ} من تلقاء أنفسهم تقليدا لما ابتدعه أسلافهم: {قُلْ} لهم يا سيد الرّسل: {سَمُّوهُمْ} من هم ونبؤوني بأسمائهم إن كنتم ثابتين على قولكم: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} جل جلاله: {بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} وهو عالم بما فيها وبما في السّماوات وليس فيها شركاء له: {أَمْ} تتمسكون: {بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} الذي تلقيتموه عن أسلافكم بأن للّه شريكا دون دليل أو حجة أو برهان، كلا لا هذا ولا ذاك: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} في المسلمين وكيدهم لهم بما ألقى الشّيطان في قلوبهم من وساوسه ودسائسه: {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} الموصلة للرشد فضلوا عن الهدى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} [33] يهديه البتة والّذين هذه صفتهم وماتوا عليها: {لَهُمْ عَذابٌ} شديد لا تطيقه قواهم،: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}قتلا وأسرا وجلاء وذلة ومهانة: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ} المخبوء لهم يا سيد رسلنا وأكمل خلقنا: {أَشَقُّ} وأعظم من ذلك حيث لا يكون لهم فيها من يقيهم منه أو يشاركهم به فيخفف عليهم: {وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} في الآخرة حين يحل بهم عذابها: {مِنْ واقٍ} [34] يقيهم منه أبدا، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} المعاصي والآثام، القائمون بالأوامر والأحكام، المتنعون عن النّواهي والإجرام، كمثل جنة عظيمة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} وميزتها عن جنّات الدّنيا أيها العاقل كثيرة، ولكن اللّه تعالى ذكر منها خصلتين عظيمتين وهما: {أُكُلُها دائِمٌ} لا ينقطع على الأبد: {وَظِلُّها} دائم أيضا وحذف لفظ دائم هنا اكتفاء بذكره قبل، راجع الآية 84 من سورة النّساء، وذلك أنه لا ليل فيها ولا نهار، وفي هذه الآية ردّ على جهم وأضرابه القائلين بفناء نعيم الجنّة، لأن اللّه يقول دائم ما فيها، فلأن تكون هي دائمة من باب أولى، إذ لا يعقل أن يكون نعيمها دائما وهي فانية، تدبر: {تِلْكَ} الجنّة الدّائم نعيمها أيها الإنسان هي: {عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} ربهم في الدّنيا فكافأهم بها بآخرتهم لقاء إيمانهم به وبرسوله وكتابه بأن جعل مثواهم في هذه الجنّة و: {عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ} [35] وبئس العاقبة هي أجارنا اللّه منها.قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي من أسلم منهم، فإنه يسرّ بالأحكام لمنزلة عليك يا حبيبي الدالة على التوحيد والنّبوة والمعاد لأنها مؤيدة لما في كتبهم، قالوا كانوا ثمانين رجلا أربعون من نصارى نجران الوفد الذي أشرنا إليه أول سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها، وثلاثون من الحبشة أصحاب النّجاشي، وعشرة من اليهود عبد اللّه بن سلام وأصحابه، وفرحهم من جهتين: الأولى أنه منزل من الحق على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم، والثانية تأييد دعواهم للإسلام وإخفاق دعوى من لم يسلم وإذلاله.{وَمِنَ الْأَحْزابِ} الّذين تحزبوا على الرّسل قبلك والّذين تحزبوا عليك في حادثة الخندق المارة في الآية 9 من سورة الأحزاب: {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} لأن اليهود الّذين تحزبوا مع قريش وغطفان وغيرهم على حرب حضرة الرّسول وأصحابه لا ينكرون كلّ القرآن بل يعترفون بما فيه من المعاد والتوحيد والنّبوة، وقصص بني إسرائيل، وأخبار الأمم المتقدمة لأنها موجودة في التوراة: {قُلْ} يا سيد الرسل للناس كافة يهودهم ونصاراهم عجمهم وعربهم وأعرابهم وبربرهم: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} وحده وأخلص له عبادتي: {وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أحدا ولا شيئا: {إِلَيْهِ} وحده جل جلاله: {أَدْعُوا} الناس إلى دينه القويم ليعملوا به ويخلصوا العبادة للّه لا إلى الأصنام ولا للملائكة وعزير والمسيح ولا لغيرهم أبدا بل أحصر دعوتي لحضرته خاصة: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} [36] مرجعي ومثواي، وقد حذف الياء تخفيفا.
|